الكلمة التي تتوسط الايتين، ويبلغ فيها الاعجاز القرآني أوجه هي كلمة «بغتة». وقد وردت في القرآن 13 مرة في 10 سور. والقاسم المشترك في كل هذه الايات أن الله سبحانه وتعالى يستدرج الطغاة الظالمين من خلقه وذلك بمزيد الانعام عليهم في الدنيا، مع أن المتوقع هو أن ينزل عقابه عليهم جراء ما اقترفوه في حق العباد والبلاد. والمتمعن في الايتين يلاحظ خمس مراحل تؤدي كل مرحلة إلى التي تليها: 1) المرحلة الاولى: هي مرحلة الامهال، إمهال الطغاة الظالمين لعلهم يتراجعون عن غيهم بعد أن أوضح لهم الرسل سبل النجاة وطرق الهلاك. 2) المرحلة الثانية: هي مرحلة النسيان أي الاعراض عن الاتعاظ بنُذُر العذاب ومواصلة السير في طريق الويل والثبور. 3) المرحلة الثالثة: مرحلة الاستدراج، وفيها تستبين حكمة الخالق في خلقه، فالله عز وجل عوض أن يعاقب هؤلاء الظالمين بسبب إعراضهم عن سبيل الايمان والحق والعدل، يرفع عنهم كل عقاب، بل إنه يفتح عليهم أبواب الرزق كلها، الحلال منها والحرام، ويقدر لهم من الفساد الاداري ما يسهل عليهم المس بالثالوث المقدس لدى كل نفس أبية: وهي الكرامة والحرية والرزق. 4) المرحلة الرابعة: هي مرحلة الفرح أي السرور بكل ما أصبحوا ينعمون به من خيرات، وما آل إليهم من ثروة طائلة وغنى فاحش، وجاه عظيم فتصيبهم نرجسية عجيبة فيظنون أن لا أحد قادر على الوقوف في وجوههم. ويزداد جشعهم فتصبح نفوسهم كنار جهنم تنادي دائما هل من مزيد. وعندما يصل فرحهم إلى حد البطر تأتي: 5) المرحلة الخامسة: وهي مرحلة «الاخذ بغتة» والاخذ هنا الهلاك عن طريق أضعف خلقه مالا وجاها وأغناهم كرامة وعزة (الشعب وشهداؤه) فإذا هم «مُبْلسون» من الابلاس وهو الوجوم والحيرة أمام ما نزل عليهم من نقمة وعذاب شرد ألبابهم قلقا، وقطع قلوبهم حسرة، وأشعل جوانحهم نارا على مال حرام جُمد، وعقار مسروق أُحرق، وأراض شاسعة صُودرت وسمعة بين الناس في مشارق الارض ومغاربها شُوهت ولُطخت عارا وشنارا. وسوف لن تقف نقمة الله عليهم عند هذا الحد، بل ستتواصل «بقطع الدابر» أي الاستئصال عن آخرهم بالنفي والتشريد، والمصادرة والتجميد، والتتبع والمحاكمة، لينال كل آثم جزاء ما قدمت يداه، وبذلك لا يبقى لهم على الالسن التي طلما أُلجمت إلا اللعنة وسوء الذكر. وتختصر الاية الكريمة بإعجاز كبير سبب هذه البطشة الكبرى: إنه «الظلم» وهو على نوعين: ظلم للنفس بالاعراض عن نصح الله وتحذيره، وظلم للخلق بما ارتكبه الباغون في حق البلاد والعباد، فإذا النعمة تصبح نقمة والفرح غما والقوة ضعفا والزهو ذلا. وتلك معجزة قام بها شعب أبي كان لها صدى في اللوح المحفوظ منذ الازل. لذا وجب الحمد لله الذي سبب أسبابها ويسر سبلها وألهم النفوس الابية اشعالها وإنجازها. |